٢٠١١/٠٣/١٨

"الشعب يريد إصلاح الإفتاء"


علاقة العالم والسلطان امتحان عسير لم ينج من فتنته إلا القليل من العلماء الراسخين في العلم الثابتين على الحق، ولم ينجح فيه إلا عدد أقل من السلاطين الوعاة الذين عرفوا لأهل العلم قدرهم وحقهم ومكانتهم. وللفشل التاريخي في تلكم العلاقة بين الاثنين اقتنع كثيرون بأن العلم والسلطان نقيضين، وأصبح السلاطين رمزا للفتنة والشر ورقة الدين، وصار القرب منهم وغشيان أبوابهم كافيا في اتهام الرجل في عقله ودينه.
لا يمكن لأحد أن يجزم بحرمة موالاة السلاطين، ولا بمنع القرب منهم لأن الأمر متروك للاجتهاد والاختيار، وفقهاء الأمة منذ عهد الصحابة منهم موالون للسلطان بل منهم من كان هو السلطان، ومنهم معارضون له لدرجة الخروج عليه ورفع السلاح في وجهه وتأليب الناس عليه مثل الإمام الحسين وعبد الله بن الزبير وسعيد بن جبير، ومنهم ومن وقفوا على الحياد
الإيجابي حفظا للعهد ورعاية للمصالح مثل عبد الله بن عمر رضي الله عنه. ومنهم من نجح في إدارة العلاقة بالسلطان بطريقة جعلت علم العالم يتغلب على سطوة السلطان وقليل ما هم، ومن أشهرهم إمام عمر بن عبد العزيز رجاء بن حيوة، وسلطان العلماء العز بن عبد السلام.
ونحن في هذا العصر لا نريد أن نبالغ ونجعل السلطان شيطانا ماردا، ولا نريد من العلماء أن يخرجوا على السلاطين ولا أن يعادوهم ولا أن يعارضوهم بل يكفينا أن يحافظوا على هيبة الشرع ومكانة العالم وشيء من ماء الوجه وبعض من يقظة الضمير، وهو أمر لا يتأتى إلا بورع العلماء وقوتهم في الحق، وتوفير أدوات الحياد والاستقلال المالي والإداري للعلماء والمؤسسات الدينية.
لقد ثار الناس على استبداد السلطان، وعلى فساد الوزراء، وسطوة أصحاب الأموال، ونسوا أن الفرعنة ذات أركان ثلاثة، الطغيان الذي يمثله فرعون، والفساد المالي الذي يمثله قارون، والفساد الفكري والديني الذي كان يتولى كبره هامان بن همداثا اللعين. وإصلاح المجال الأخير وإفساده لا يقلان أهمية ولا خطولاة عن إصلاح السياسة والاقتصاد والإدارة، لأن الدين ومشايخه يعتبرون من أولي التأثير الإيجابي والسلبي في العالم العربي وغير العربي، ومع ذلك لم نسمع من شباب الثورتين التونسية والمصرية من يدعو لإصلاح الأزهر والزيتونة، ونجا المشائخ الذين سفهوا أحلام الثورة من دخول القوائم السوداء لأعداء الثورة أو خرجوا منها كما تخرج الشعرة من العجين، ربما لشيء من الهيبة ما زال يكنه كل مسلم لكل من اتشح بوشاح الدين والعلم أيا كان.
لقد أظهرت الثورات المتلاحقة أن جمهور علماء المسلمين خارج التغطية غائب عن الأحداث، إلا من رحم الله، كما أظهرت الأحداث عجزا وقصورا في الخطاب الشرعي والتوجيه الدعوي، لدرجة جعلت التدين وأهله متجاوَزين وكأنهم يعيشون في عالم آخر غير الذي يعيشه الناس. فمن ذا الذي سيستمع إلى خطاب محنط عن قضية لا علاقة بالحياة وهو يضرب ظهره وسط الميدان؟ ومن ذا الذي سيتصل ببرنامج فتوى مباشرة غير الذين رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وعجزوا عن النية والقول والفعل؟
وبعد أن وضعت الثورة أوزارها في مصر وتونس بدأ علماء السلطان الفارّ والمخلوع يتهافتون على موائد السلاطين الجدد، وينفون ويكتمون ويؤولون كلما صدر عنهم من عداء لمواقف الثوار، وكأني بالناس ستنساهم وتتجاوز عن كل ما صدر عنهم ليعودو من جديد ليبرروا للحاكم الجديد كل جديد، كما كانوا يبررون للحاكم القديم كل قديم. وقد بدأ بعضهم بالفعل بادعاء البطولات وأنه كان مع الشباب سرا، وأنه كان يدعمهم بقلبه، وأنه كان خائفا من سيده القديم، وأنه لا يمكن أن يترك من عمل معه وفاء له، وأنه وقف مع هذا الشاب أو ذاك الشيخ موقفا بطوليا لعل ذلك يشفع عند الناس.
لقد سمعنا عن استقالة مدير كلية الاقتصاد اللندنية العريقة لأنها منحت القذافي "الصغير" الدكتوراه، وقبلت منه هبة بمآت الآلاف من الدولارات، فلماذا لم نسمع عن استقالة شيخ أو توبته أو اعتذاره لأنه قبل هبة من هذا الظالم أو ذاك؟ أو لأنه سوغ له ما لايسوغ عقلا أو عادة أو شرعا لهذا الطاغية أو ذاك؟ أو لأنه حاباه أو تنازل له أو سكت له عن بعض محارم الله؟
لقد أصبت بالحرج الشديد والأسى الأشد عندما سمعت سيف القذافي في خطابين يكرر انه ابن المشائخ المدلل، والتدليل من ناحيتين، وأنهم كانوا يلعقون أحذية آل القذافي والعياذ بالله، ولو كان المشائخ مستقلين بعيدين عن مواطن التهم لما ساغ لهذا السفيه ابن السفيه أن يقول عنهم مال قال ولو بالباطل.
وتعجبت من الفتوى الصادرة عن بعض الهيئات والعلماء بأن التظاهر حرام دون التنبه للفرق بين الممنوع والحرام. فالممنوع لا يعدو أن يكون حظرا بشريا قد يكون صاحبه مخطئا وقد يكون مصيبا، ولا يعدو متعديه أن يكون قد تجاوز أوامر ونواهي وضعية وضعها من وضعها بالحق أو بالباطل، أما الحرام فهو حكم الله وأمر الله الصريح الذي لا يجوز تجاوزه، ويعتبر متعديه مرتكبا للخطيئة مقترفا للإثم. وشتان ما بين الاثنين. رحم الله الإمام مالكا فقد كان يتورع عن إطلاق الحرام إلا على ما ورد فيه نص صريح بالتحريم ويقول بدلا من ذلك أكره أو لا أحب. ولو أن أحد هؤلاء أرى أن التظاهر مفسدة، أو أنه لا يتوقع منه مصلحة لكان له اجتهاده وأجره، أما أن يقحم حكم الشرع بالوجوب والمنع في كل ما يحلو له فلا. كان النبي صلى الله عليه يوصي جيوشه قائلا: "وإذا حاصرت حصنا فأرادوك أن ينزلوا على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا" فمتى يعرف المشائخ الفرق بين أقوالهم وقرارات حكوماتهم وبين حكم الله؟.
أحمد يعقوب - أستاذ بجامعة عجمان للعلوم والتكنولوجيا

ليست هناك تعليقات: